عادت فرنسا لتثبت انها لا تزال تمتلك النفوذ الاكبر في لبنان، وذلك من خلال تنظيمها مجدداً، بالتعاون مع الامم المتحدة، مؤتمراً دولياً لمساعدة اللبنانيين (وليس لبنان اي السلطات الرسمية)، نجحت في حشد كل دول العالم فيه وبالاخص الولايات المتحدة الاميركية والدول العربية الخليجية ومصر اضافة الى دول اوروبا والبنوك والصناديق الماليّة الدوليّة. وكان لافتاً دعوة رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي للمشاركة في المؤتمر كمراقب. وفي حين انّ الهدف الاساسي من المؤتمر كان كسابقه، الا انه سجلت على هامشه رسائل كثيرة، فيما يجدر التوقف عند عبارة قالها وزير الخارجية البريطاني في كلمته يمكن البناء عليها لاخذ فكرة عن صورة الوضع في الآتي من الايام.
ولا بد من القول ان ما صدر عن المؤتمر من الناحية الماليّة هو متواضع بطبيعة الحال، فيما كان مهماً اطلاق الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وعداً بتخصيص نصف مليون لقاح ضد وباء كورونا، تصل الى بيروت في الاسابيع القليلة المقبلة. اما البارز من الرسائل في الشقّالسياسي، فهو دعم ميقاتي بشكل واضح وصريح، وهو امر لم يحصل مع النائب سعد الحريري حين كان مكلفاً تشكيل الحكومة، اذ اكتفى بالاعلان عن وجود دعم شامل له، من دون ان يقترن بتأييد ملموس وحسّي. وهذا الدعم المعنوي، لم يترافق مع ضغط دولي فعلي وقاس كما اوحى به الاوروبيون انفسهم من اسابيع، ولو كان التوافق خلال المؤتمر على تحديد فترة زمنية لتشكيل الحكومة و"فرض" خريطة تشكيلها، لما كان هناك من مجال للمماطلة والتسويف من قبل اي طرف لبناني.
على خطّ آخر، كان غياب حزب الله عن المؤتمر من خلال كلمات المشاركين فيه (ما عدا كلمة السعودية)، دليل اضافي على ان مسألة الحزب ليست اولويّة دوليّة بعد، وهناك محاولات لا تزال تبذل لابقاء ملف السلاح في درجة ثانية، وهو ما يريح الحزب بالطبع ويفسح له المجال امام لعب المزيد من الادوار غير المعرقلة في الداخل اللبناني، وترجمة ما تم الاتفاق عليه مع الفرنسيين في هذا المجال.
اما الخرق الواضح في الكلمات والذي يجب التوقف عنده، فكان ما قاله الوزير البريطاني دومينيك راب، حيث انضم اولاً الى قافلة المتحدّثين لجهة عرض آثار الانفجار المأساوي في مرفأ بيروت وتداعياته، ومعاناة اللبنانيين، والوعود بالوقوف الى جانبهم، ودعوة السياسيين الى تحمل مسؤولياتهم والاسراع في تشكيل الحكومة، قبل ان يشير الى انه في حال تخلف السياسيون عن ذلك، "يجب على أصدقاء لبنان البحث في كيفية معالجة الفساد، هذا هو التزامنا". لا تحمل العبارة في ذاتها يشيء خطير، ولكنها كافية لالقاء الضوء على ان التسوية الكبيرة في الخارج لم تتحقّق بعد، وبالتالي لا يمكن الجزم بتسوية الامور في لبنان من قبل الاطراف المحلية، وان الوضع الامني لن يصل الى الهاوية كغيره من الاوضاع، بدليل التركيز على مسألة مكافحة الفساد وليس منع الفوضى الشاملة. والدعوة الى التفكير بتحرك دولي لوقف الفساد، هي خير دليل على ان لا ثقة بقرب حلحلة الاوضاع السّياسية والاقتصاديّة والماليّة، وان المسألة اعمق من ذلك، ويجب تعزيز الرقابة الدولية على لبنان في المجالات الاقتصادية لتأمين مظلّة اقتصاديّة على غرار المظلّة الامنية التي اثبتت فاعليتها على مدى سنوات.
قد تحمل هذه العبارة اجواءتشاؤمية للبعض الذي يترقب ايجابيّة سريعة في الملف الحكومي، ولكن الواقع يفرض أخذ كل الكلام بالاعتبار، وهذه العبارة تحديداً لا يمكن ان تمرّ مرور الكرام، في ظل تأكيد دولي بعدم التعامل مع الطبقة السياسية الحاليّة (علماً انهم مستعدون للتعامل مع حكومة يشكّلها اعضاء هذه الطبقة، ولو تحت مسمى "اختصاصيون ومستقلون"!) بدليل دعوة اعضاء من المجتمع المدني للمشاركة في المؤتمر.
لا تزال المرحلة المقبلة مليئة بالغموض حول ما ستؤول اليه الاوضاع في لبنان، وهذا مردّه الى الغموض السائد على الساحة الدوليّة بالنسبة الى الوضع في المنطقة ككل، ولا بد من المزيد من الانتظار لاستشراف بعض آفاق المستقبل القريب.